بناء على دعوة من رئيس القمة العربية الحالي العقيد معمر القذافي وبحضور الرئيس حسني مبارك والرئيس علي صالح والشيخ حمد بن خليفة آل ثاني والرئيس العراقي جلال طلباني، وبمشاركة الأمين العام، اجتمعت اللجنة الخماسية العليا على المستوى الرئاسي في ليبيا، وقد أنهت القمة الخماسية التي عقدت يوم الاثنين الماضي، 28 يونيو، أعمالها في طرابلس باصدار 16 توصية لتطوير العمل العربي المشترك، سترفع الى القمة العربية التشاورية المقرر عقدها في ليبيا في أكتوبر القادم.
وقد جاء في التوصيات التي خلصت اليها اللجنة الرئاسية وأبرزها عقد القمة العربية مرتين وكذلك عقد قمم عربية نوعية، اضافة الى انشاء مجلس تنفيذي على مستوى رؤساء الحكومات أو من في حكمهم بتولي مهمة الاشراف على تنفيذ القرارات العربية، كما تناولت التوصيات اعادة تشكيل مجلس السلم والأمن العربي بما يضمن فعاليته وزيادة عدد الأعضاء مع مراعاة التوازن الجغرافي عند تشكيله وتوسيع مهامه، وتكليف وزراء الخارجية كذلك وزراء العدل باعادة دراسة النظام الأساسي لمحكمة العدل العربية باعتبارها أحد الأجهزة الرئيسية في منظومة العمل العربي المشترك.
وحول تلك التوصيات أود ان أبدي الحقائق التالية:
أولا : قامت الجامعة العربية في عام 1945 كمجلس للتنسيق والتفاهم بين الدول العربية المؤسسة، وكانت همومها سياسية وثقافية، تبحثها الدول الأعضاء في اطار المساواة والاحترام المتبادل، ورحل الأمين العام الأول عبدالرحمن عزام، وجاء بعده عبدالخالق حسونة باشا، وهو رجل ذو أخلاق عالية وصبر كبير وسعة صدر لا حدود لها، تابعته شخصيا في أروقة الجامعة التي عملت القيادة المصرية آنذاك على تحويلها الى جامعة الاستسلام دون كلام، وأدخلت الأيدولوجية القومية العروبية لخدمة البرامج المصرية، تجاوزا لمفاهيم السيادة واستقلال القرار على حساب مصالح الآخرين، وتم اختطاف الجامعة وادخالها في مسار مختلف لا يقره ميثاقها، كان الأمين العام – عبدالخالق حسونة – يتعرض لضغوط وتجريح، لكنه كان حريصا على ابعاد الجامعة عن الاصطدام بالجاهلية الثورية التي كانت تخنقه، كان يردد ان سفينة الجامعة لا يمكن ان تبحر في محيط العواصف الهوجاء لذلك ظل هادئا محافظا على الجامعة في مرفأ مستقر انتظارا لظروف أخرى.
وترتفع جامعة الدول العربية حاليا اذا نجحت في اغلاق المسارات التي يمكن ان يتسلل اليها المخربون والمتطرفون، أصحاب التركة الثورية، الذين يغرقون ملفات الجامعة بخطبهم وبلاغتهم، ويمتنعون عن العطاء والمساهمة، وتزدهر الجامعة مستقبلا اذا حافظ السيد عمرو موسى على تهميش النزعة الثورية الباقية وتعطيل شهيتها للتخريب.
ومشروع الوحدة المقترح التقت فيها رؤى الأمين العام مع المقترح اليمني والسعي الليبي وهو أقرب الى بناء اتحاد كونفدرالي بين الدول العربية فيه توافق في الدبلوماسية وتلاق في الأمن ومصالح في التجارة، ويمثل هذا المشروع قفزات بعضها ممكن وبعضها غير ضروري، وبعضها سابق لأوانه لكن المشروع وليد طموح وآمال تذهب أكثر مما يدعو له الميثاق، الذي ينظم العلاقات بين دول عربية مستقلة وذات سيادة ونلاحظ أنه جاء في التوصيات وضع النظام الأساسي لمحكمة عدل عربية، لن يلجأ اليها أحد، ولن تكون بديلا عن محكمة العدل الدولية، ذات التراث والشفافية، وستكون جهازا ديكوريا وعبئا اداريا وماليا.
ثانيا: جاءت المبادئ التي جسدها ميثاق الجامعة العربية عالية في معانيها وسامية في روحها ونزيهة في نواياها، وليس من الانصاف ان نحمل الميثاق مسؤولية الانتكاسات التي حدثت في العلاقات العربية، وهي انتكاسات جاءت مع الراديكالية العربية التي أدخلت مفاهيم مستجدة على العمل السياسي العربي، ومؤزمة للمسار المشترك، وأتذكر أنني حضرت مقابلة سمو الشيخ صباح الأحمد مع الرئيس الراحل عبدالناصر في القاهرة عام 1966، أثير فيها ضرورة اعادة التعاون بين الدول العربية، وكان رد الرئيس بأنه لن يجلس مع الرجعية العربية، وأن وحدة الهدف أهم من وحدة الصف، والواقع أنه لا يمكن ان توحد الأهداف بين دول متباينة في مواقفها وفي انتماءاتها وفي تحالفاتها، فلا مكان في ميثاق الجامعة لهدف موحد سوى البحث عن مزيد من الاستقرار والازدهار، وليس السعي لوضع القيود على سلوكيات الدول أو تجاهل التباينات في مواقفها، ولا ينص ميثاق الجامعة على ضرورة تبني نهج عربي موحد في دبلوماسية الدول، والحقيقة ان ميثاق الجامعة التأسيسي وثيقة راقية تسجل حق الدول في اختيار الوسيلة التي تراها في مصلحتها دون ضغوط أو ابتزاز أو تدخل في شؤونها، ولا جدال بأن الانتكاسات في العلاقات العربية – العربية تعود الى مصادرة حق هذه الدول في اختيار سياستها مع اصرار المدرسة الراديكالية على مضايقة الذين يختلفون معها والتشنيع عليهم اعلاميا وسياسيا والتآمر لتغيير أنظمتهم، كما تسجل الوثائق المنشورة في أحداث العراق وسورية واليمن وليبيا والأردن وآخرين، كلها تعرضت لدسائس ومؤامرات بعضها سقط وبعضها قاوم وحافظ على جلده.
ثالثا: لا مفر من أسس جديدة تتمثل في قواعد يلتزم بها جميع الدول العربية، أبرزها اغلاق ملف الثوريات القديم، فالجامعة العربية هي مجموعة دول لها سيادات ولها ارتباطات، ولها مصالح ولها مسؤوليات، والدولة العربية هي كيان دائم بحدود دائمة، فلا يمكن قبول التمدد الجغرافي تحت أي شعار، ولا مبرر في حياتها للهيمنة والاملاءات، فلابد من تأكيد الاحترام المتبادل بين الدول، والاعتراف بحقوق الاختلاف بسبب المصالح وبحقوق التباين، وحماية الرأي الآخر، والنهج المختلف، فليس بين الدول العربية ما يمكن ان نسميه حق التميز، كلها دول متساوية بعضها كبير الحجم وبعضها كبير بالاهلية التجارية والاقتصادية، وبعضها حكيم في تراثه، وجميعها يعتز بتاريخه وبوطنيته.
الاصلاح العربي يبدأ بالعودة الى الشرعية العربية التي تمثلت في ميثاق الجامعة باحلال الحكم الراشد والصالح، واعلان نهاية الفقه العسكري الذي دمر العرب، وقدم ثقافة سياسية فاسدة عانينا نحن أهل الخليج وبالذات في الكويت من نتائجها أيام الغزو المشؤوم بهروب 12 دولة عربية من التصويت في الساعة الفاصلة بين المسؤولية التاريخية والانتهازية البائسة.
رابعا – أكبر مشكلة تواجه الدول العربية هي التواترات الداخلية الناتجة عن الصراع الطائفي والعرقي والأيدولوجي مثل حالة السودان وحالة العراق وحالة لبنان كمثال لا للحصر، ولا أعرف الكيفية التي ستعالج بها هذه الأورام، وتجارب الوحدة والأمة الواحدة لم تضئ طريق الاستنارة والعصرنة، كما لم تنجح في تأسيس عمق صلب لمؤسسات الحكم الديموقراطي، ولم توفر حرية واسعة لحقوق الانسان ولا لدور هيئات المجتمع المدني، ولم تعط الصحافة حريتها ولم تدع الى تداول السلطة وسيادة القانون، ولم تتمكن من غرس المواطنة، وما نشاهده الآن يمكن اعتباره سجلا منفرا في الانتهاكات والاستبداد واحتكار السلطة وأحزاب تفتقر الى المهنية في الطرح والى النضج في الادارة والى الرحابة في تأمين المؤيدين.
وأخيرا يرتفع نظام الجامعة اذا ما التصقت الجامعة واعتمدت وتحصنت بالمجموعة العربية الواعدة ممثلة في مجلس التعاون ومصر وعقلاء سورية والأردن والعراق وابتعد عن مشاريع الخرافة مثل مشروع الاتحاد العربي الذي أراد الرئيس اليمني طرحه في، وتناولته القمة الخماسية.
وتثمر الجامعة العربية اذا ما انصهرت مع المجموعة التي تعمل لتجذير القيم المرتفعة في العلاقات بين الدول وفي المساهمات في مساعي التنمية والتطور والاستنارة وهي التي ستأتي بالتبدلات في المجتمعات العربية، هذا هو التحدي الحالي الواقعي أمام الجامعة، وهو تحد له هدف كبير وهو تعظيم الفضيلة The challenge of Virtue، في المجتمعات العربية.(كركور)