مع اقتراب موعد الاستفتاء حول انفصال جنوب السودان واعلان استقلاله، المتوقع في مطلع العام المقبل، قررت المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي يوم الاثنين الماضي الموافق 12 يوليو الجاري توجيه تهمة جديدة الى الرئيس عمر البشير تتعلق بارتكاب ابادة جماعية في اقليم دارفور، في وقت قررت فيه أحزاب المعارضة السودانية توجيه قادتها الى مدينة جوبا، عاصمة الجنوب، لطرح برنامج جديد يدعو الى وحدة البلاد، وفيما سارعت حركة العدل والمساواة الى الاشادة بقرار المحكمة الجنائية، واعتبرته انتصاراً لشعب دارفور والانسانية جمعاء، تتكاثف الجهود لرسم ملامح السودان الجديد، خاصة مع اقتراح رئيس جنوب أفريقيا السابق ثابو مبيكي، رئيس لجنة الاتحاد الأفريقي لمتابعة ملف السودان، على الطرفين انشاء كونفيدرالية من دولتين مستقلتين أو شكل من أشكال التعاون المكثف في حال أيد الجنوبيون خيار الانفصال.
وحول الحالة في السودان أود ان أبدي الملاحظات التالية:
أولا- تتحمل جميع حكومات السودان المتعاقبة منذ استقلال السودان مسؤولية الوضع المتدهور في السودان حتى هذا اليوم، فلم تنهض الحكومات المتعاقبة بمسؤولياتها الوطنية تجاه جميع مكونات الشعب السوداني، ففي عام 1956 حصل السودان على استقلاله وتولى حزب الأمة بقيادة عبدالله خليل، أول رئيس للوزراء المسؤولية، لكن العهد المشكل من ليبرالية – عشائرية – طائفية انهار بقيادة الجنرال ابراهيم عبود عام 1964، الذي تبنى سياسة الهدوء والعزلة، وكان قانعا بما يملك وشاعرا بالاطمئنان الا ان الحكم العسكري سقط بعد مظاهرات شعبية أججتها مجموعة السياسيين المتربصين بحكم الجنرال الزاهد.
تولى الحكم بعد ابراهيم عبود الدبلوماسي البارع محمد أحمد محجوب، الذي شكل ائتلافا قويا في منتصف الستينيات، الا ان في حكمه لم تبذل الجهود المكثفة للتعامل مع واقع الجنوب.
ومن الحكم المدني في السودان الى الحكم العسكري مرة أخرى حين انقلب الجنرال جعفر النميري الذي حكم السودان لأطول فترة في تاريخه الحديث، وتفجرت الحرب الأهلية الشعبية في فترته الثانية، حين ألغى الفريق النميري عام 1983 الحكم الذاتي الداخلي للجنوب، وفرض على السودان الشريعة الاسلامية في شمالها وجنوبها، الأمر الذي أدخل السودان في دوامة أطول حرب في أفريقيا – أكثر من ربع قرن- امتدت آثارها حتى هذا اليوم، وكان من نتائج هذه الحرب سقوط أكثر من مليوني شخص وتشريد أكثر من أربعة ملايين، في ظل عجز الحكومات التالية على ايجاد حل للمشكلة.
ويأتي نظام البشير وهو مدرك بأن المعضلة في الجنوب أكبر من طاقة السودان وأكثر من امكاناته، لذا امتلك الجرأة والشجاعة في توقيع اتفاقية السلام عام 2005 التي تقر اجراء استفتاء حول انفصاله، ومع اقتراب العد التنازلي للاستفتاء وما قد يترتب عنه سواء الانفصال أو الوحدة الكونفدرالية أو التعاون المكثف، تتكشف معضلة أخرى تواجه النظام في السودان وهي دارفور.
ثانيا – مشكلة دارفور مثل مشكلة الجنوب هي افراز لعجز الأنظمة السودانية منذ الاستقلال على التعامل مع الموزاييك البشري والعقائدي والعرقي فيه، واهمال حقوق أهل الغرب وأهل الجنوب، ومصادرة هذه الحقوق بيد جماعة الشمال المحتكرة للسلطة.
ولا يمكن عزل ما يحدث في دارفور في غرب السودان عن جنوبه، ولا يمكن تجاهل الظاهرة المستجدة في العلاقات الدولية في هذه الفترة، فالعالم اليوم قرية صغيرة، أمنها مترابط وأحداثها معروفة، وثورة التكنولوجيا ساهمت في كشف المستور عن تلك المنطقة النائية، التي كانت لغزا غامضا لكثير من الشعوب، لكن تراخي الحدود وزوال الحواجز السيادية De-territorization مكنها من معرفة حقائق الوضع في دارفور.
وهذه المعرفة أفرزت تضامنا جماعيا عالميا لشعب دارفور الذي يعيش مأساة راح ضحيتها عشرات الآلاف من المدنيين، وهذه التضامنيات الموجودة في أوروبا وأمريكا تحولت الى هيئات وقطاعات شعبية مؤثرة في الرأي العالمي، نجحت في تأسيس تواصل رسمي وشعبي من قيادات عالمية تحركت للتدخل لايجاد حلول للمأساة في دارفور، ولم يكن النظام في السودان على وعي باحتمالات التدخل الدولي الذي أثار الاهتمام السياسي والاعلامي والانساني نحو تلك البقعة الغامضة من السودان، ولم يدر في حسبانه تسلل اشعاعات العولمة الى تلك المنطقة النائية.
ثالثا – ليس من مصلحة السودان التراخي في التعامل مع الوضع في دارفور، والتمرتس وراء ضوابط تجاوزتها المستجدات مثل الحفاظ على الشأن الداخلي وعدم التدخل، ومن الأجدر للدبلوماسية السودانية التعامل بوضوح وشفافية مع التوجهات العالمية بدلا من كيل التهم للاستعمار الطامع في بترول السودان والساعي لازالة الحكومة الوطنية، ولن تنفع السودان مخابئ الدبلوماسية ولا ضجيج الاعلام، ولابد ان تتجاوب حكومة السودان مع توصيات مجلس الأمن السابقة حول الحالة في دارفور، ومع قرار المحكمة الجنائية الدولية وتتعاون واضعة مصحلة السودان فوق مصلحة الحكم وفوق كبرياء وعناد المسؤولين فيه وليس في صالح السودان اثارة الشارع الشمالي ضد الأمم المتحدة، والتحريض ضده باستعراض القوى الشعبية المسلحة مع خطب رنانة، علاج السودان في نظام فيدرالي ووفق دستور عملي ومرن من أجل تحقيق التوافق الشعبي الدستوري الذي يبحث عنه شعب السودان، دون ذلك سيظل السودان مهددا بالانفصال غربا وجنوبا، وجوهر الوضع فيه هو البحث عن الصيغة العصرية للدولة القوية التي تنال ثقة الجميع وتريح الجميع ويرتاح لها الجميع، منسجمة مع التحولات العالمية وديموقراطية تمارس عملها بشفافية وثقة.
رابعا- مهما كانت نهاية الأزمة الحالية في السودان، هناك عبر ودروس لابد من الوقوف عندها، أبرزها: ان أمن العالم متشابك ومتداخل، فالوضع في السودان يهدد أمن أفريقيا، وله أبعاد على الأمن والسلام العالميين، وأن العولمة هي حصيلة تداخل المصالح وثمرة التقارب الذي أفرزته ثورة المواصلات والاتصالات وأن المفاهيم القومية نحو السيادة وحصانتها وقدسيتها وتسوير البلد بادعاءات عدم التدخل والاستقرار التسلطي بالشعوب، وتجاهل حقوق الأقليات والمحاباة الفئوية كلها عناصر لم تعد صالحة في هذا العصر.
وأخيرا - من المناسب أيضا في هذه المرحلة الحرجة في حياة السودان، ان تتبنى حكومة البشير سياسة التهدئة والتروي، وتعلن وبوضوح تعاونها مع الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي، وعليها القبول بنتائج الاستفتاء الذي ستكون حصيلته دولة جديدة في جنوب السودان، وعلى الجميع ان يتهيأ لتقبل هذا الواقع الجديد والانسجام معه والاعداد للفصل الجديد الذي سيخرج من بطن جنوب السودان والذي سيلقي بتداعياته على الوضع العربي وعلى البعد الدولي بكل جوانبه.(كركور)