قضيت أياما في ربوع أسبانيا، واستذكرت شريطا قديما تعايشت معه خلال الزيارة السابقة، عن سقوط الأندلس، خاصة وأنني كنت قد قرأت شخصيا الكثير من الكتب والمطبوعات القديمة عن تاريخ العرب والمسلمين في الأندلس، لعل أهمها كتاب اسمه (قصة المسلمين في أسبانيا-The story of the Moors in Spain - صدر عام 1886، وألفه الكاتب البريطاني ساتنلي لين بول- Stanley Lane Poole- والده كان مرجعاً في اللغة العربية، وشقيقه استاذ التاريخ في جامعة أكسفورد، وما يميز الكتاب التزامه بقواعد البحث العلمي الموضوعي.
وأرى ان أوجز أهم المحطات لتاريخ العرب والمسلمين في الأندلس منذ عبور القائد البربري طارق بن زياد في 711م، الى هزيمة أبو عبدالله بن الأحمر في غرناطة واستسلامه في 1491م، لما أثارته وتثيره المشاهد التاريخية من تساؤلات حول الأسباب الحقيقية لنشأة الأمم واندثارها:
- عام 711 ميلادية احتل القائد البربري الموهوب طارق بن زياد الهضبة العالية التي سميت باسمه بعد ذلك «جبل طارق»، عندما وصل من طنجة مع عشرة آلاف مقاتل اختارهم القائد من جماعة البربر.
- وركب القائد وجنوده السفن التي استدانها من حاكم طنجة الأسباني، وهو الذي دفعه وشجعه على غزو أسبانيا بسبب عداوة ضارية بينه وبين حاكم الجنوب الأسباني لوذريق، لأسباب كثيرة أوردها الكتاب وليست ضرورية في هذا المقال.
ورجعت السفن الى طنجة دون حريق وتسلمها صاحبها الأسباني واستغلها فيما بعد في مغامراته.
ولم يكن القائد طارق بن زياد خطيباً مفوهاً في اللغة العربية، ولم يثبت بأن القائد الذي بالكاد يتحدث اللغة العربية وقف مخاطباً جنوده البربر على طريقة الحجاج وابن الزبير، كانت عبقريته عسكرية ولم تصل الى ديباجة الخطب وصياغة النثر.
- رافق النصر الذي حققه القائد طارق اجراءات انسانية سياسية كان لها أكبر الأثر في النصر وفي حسن الاستقبال الذي قدمه الأسبان للجيش القادم من طنجة.
اتخذ طارق ثلاث خطوات تاريخية عزز قبضته على الحكم:
- ألغى الرق الذي كان منتشراً بين الطبقة الفقيرة خاصة في الأراضي الاقطاعية حيث ان مالك الأرض يملك كل ما يتحرك عليها بما فيها أولاد وأحفاد المملوكين، وقد وضع القائد طارق حداً لذلك وأطلق سراح العبيد المملوكين، ومنحهم الأراضي الزراعية لاستغلالها.
- أنهى امتيازات الطبقة الأرستقراطية التي تتمتع بكل الخيرات ولا تتحمل مسؤوليات.
- ألغى الضرائب المفروضة على الفقراء والتي يتهرب منها الأغنياء، ووضع الضوابط المعقولة لفرض الضرائب وفق الدخل والقدرة، بسبب هذه الخطوة تبدلت الأحوال السياسية والاجتماعية والطبقية.
ولذلك تمكن القائد بسهولة من التوسع في الاستيلاء على معظم أسبانيا خلال فترة لا تتجاوز ثلاث سنوات.
- في عام 741 انفجرت ثورة البربر، عندما شعر البربر باحتكار الامتيازات من قبل العرب الذين جاءوا مع القائد موسى بن نصير الذي لحق بالقائد طارق فيما بعد واتجه بجيشه العربي نحو الشرق بينما واصل طارق تقدمه في الشمال.
واعترض البربر على وضعهم في الخط الأول من المواجهة مع القوات الأسبانية المسيحية التي بدأت في جمع قواها في الشمال والشرق، وانتهت الثورة بعد صراعات واحتكاكات دموية مع الفرق العسكرية العربية.
- ظل الأندلس في مواجهة مع القوات المسيحية وفي مناوشات مستمرة لم تهدأ، مع زيادة تصاعد التصميم المسيحي على استعادة الأندلس من غزو المسلمين.
- في عام 755م، وصل عبدالرحمن الداخل الذي هرب من الشام بسقوط الدولة الأموية عام 751ميلادية، وأعطى وصوله الى الأندلس موجة عارمة من التصميم على ترسيخ الحكم الاسلامي، ولأنه رجل سياسي وقائد شجاع، واجه حركات التمرد والانفصال بين ولاة المدن بقوة، وأعاد الهيبة الى القيادة المركزية في قرطبة.
- توفى الأموي عبدالرحمن الداخل عام 788 وتولى ابنه هشام ثم ابنه الحكم، زادت قوة النبلاء المسيحيين في المبادرة بمضايقة القوات الاسلامية، ودفعها نحو الجنوب، مع بداية ظهور ضعف على القيادة في قرطبة..وبدأت الصراعات بين الحكام المسلمين مع تصاعد النزعة نحو الاستقلال تخلصاً من سلطة القيادة المركزية التي تخض لحكم الأمويين.
- جاء عبدالرحمن الثاني عام 822 ليعيد الكثير من سلطة الخليفة في قرطبة بعد ان قويت سلطة الولاة، لكن هذه القوة تلاشت مع وفاته عام 851، وتولى ابنه محمد الضعيف الخلافة.
- في الفترة ما بين 851-929م، ثمان عقود من الصراعات قتل خلالها الخليفة المنذر، بعد ان حاك أخوه عبدالله مؤامرة ضده، وتولى عبدالله الحكم الذي في عهده تفككت الدولة الى ولايات بعضها يتولاها مسلمون وبعضها غير مسلمين، وبدأت في ذلك العهد تزايد قوة مدينة أشبيلية كمنافس لقرطبة.
كما استقل البربر في الجزء الغربي المحاذي للبرتغال، كما قويت شوكة المسلمين الأسبان الذين دخلوا الاسلام لكنهم لم يتفاعلوا تماماً مع العرب، الذين انحصرت قوتهم في قرطبة فقط.
- في عام 912م تولى الخليفة عبدالرحمن الثالث – ناصر الدين- الرجل القوي الذي أعاد القوة الى العاصمة المركزية في قرطبة، وقضى على التحالفات البربرية والأسبانية، وكسر ظهر النبلاء العرب الذين أساءوا استعمال النفوذ، واستبدلهم بجيش ضخم يتكون من جنود من شرق أوروبا، جلبهم وكلاء أجانب معظمهم من اليونان ليتربى هؤلاء الجنود الصغار على طاعة الخليفة ويدرسوا الاسلام تحت اشراف القصر، مثل ظاهرة المماليك الذين جلبوا الى مصر في آخر عهد الدولة الأيوبية لحمايتها.
- في عام 930 أعاد الخليفة عبدالرحمن الناصر الهدوء في جميع أنحاء الأندلس، ومارس الحكم الحازم المباشر، مع رعاية أبوية تستلهم العدل وترفض الظلم.
- في عام 961 توفى الخليفة عبدالرحمن الناصر، وترك لابنه الحكم الثاني، مملكة واسعة مزدهرة ومستقرة.
يمكن القول بأن بداية حكم الطوائف ومناوشات الأمراء ومؤامرات النبلاء بدأت تعود بقوة مع الخليفة الحكم الثاني ثم ابنه هشام الثاني الذي تولى الخلافة وعمره 11 عاما.
- استمرت فترة الانحدار حتى عام 1086 عندما دخل القائد يوسف بن تاشفين في مواجهة عسكرية مع القائد الأسباني الفونسو السادس ويهزمه وينقذ قرطبة من الاحتلال الأسباني.
ويعود مرة أخرى القائد يوسف بن ناشفين عام 1090، لنصرة الخليفة المعتمد بن عباد في اشبيلية، ويواصل انتصاراته ضد الأسبان مستعيدا حكم المسلمين في معظم شبه جزيرة ايبيريا..
- جاء الموحدون من شمال أفريقيا، وهم من البربر المتشددين في الديانة، وتولوا القيادة وزادت سطوتهم في مصير الخلفاء، الذين أصبحوا رهينة بين الحراس المماليك وبين زعماء البربر الموحدين.
في عام 1260 لم يبق للمسلمين في أسبانية سوى غرناطة تحت زعامة بني الأحمر بعد سقوط قرطبة.
- من الفترة 1491-1260 بقيت غرناطة امارة عربية مسلمة تدفع الجزية للقائد الأسباني، وربما كان الاستمرار ممكن في هذا الترتيب، غير ان الخليفة مولاي أبو الحسن، لم يقبل الاستمرار في الترتيبات التي حافظت على الحكم الاسلامي في غرناطة، وأعلن رفضه لدفع الجزية.
وبدأت الصدامات بين قوات أبو الحسن وبين الجيش الأسباني وانفجرت عام 1481.
لكن الخليفة مولاي أبو الحسن تألم كثيراً عندما أنضم ابنه عبدالله (أبو عبدالله الأحمر آخر الخلفاء) الى خصومه الأسبان لأنه يرى الاستمرار في دفع الضرائب والحفاظ على غرناظة.
- مات مولاي الحسن قبل سقوط غرناطة وانقسم المسلمون بين أبو عبدالله الأحمر وبين عمه، الذي أعلن نفسه خليفة بعد وفاة أخيه.
- بعد حصار طويل ومعارك حول المدينة لم ير الخليفة أبو عبدالله بداً من الاستسلام وجمع أهل المدينة وأحاطهم بالوضع وفي 25 نوفمبر 1491 سلم الخليفة مفاتيح المدينة الى الملك فيرناند والملكة ايزابيلا.
ومن شرفة الجبل خارج المدينة التفت أبو عبدالله الأحمر نحو المدينة مردداً الله أكبر، والعظمة لله وحده.
وترد عليه الوالدة الأميرة عائشة (ابك مثل النساء على ملك لم تحافظ عليه مثل الرجال).
- كان التسليم مشروطاً في عدم فرض الديانة المسيحية على المسلمين وعدم مصادرة أموالهم.
لكن الجانب الأسباني لم يلتزم بالعهد، وشهدت المدينة اضطرابات بعد فرض قانون يحرم الغسيل والنظافة.
بدأت محاكم التفتيش، والابعاد الى أفريقيا.
- في عام 1567 فرض الملك فيليب الثاني اللغة الأسبانية وحطم الحمامات وأزال مظاهر الحضارة الاسلامية.
- في عام 1568 انفجرت ثورة المسلمين التي استمرت عامين بسبب القسوة والعنصرية والمصادرة والابعاد...
- عام 1610 بلغ عدد المطرودين الى شمال أفريقيا ثلاثة ملايين.
- انتهى عهد الثورة والعلم في أسبانيا، بهذه العبارة ينتهي الكتاب..(كركور الحزين)
ب